سورة الأحزاب - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)}
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} مقدر بأذكر على أنه مفعول لا ظرف لفساد المعنى، وهو معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر كخذ هذا، وجوز أن يكون ذلك عطفًا على خبر {كان} وهو بعيد وإن كان قريبًا، ولما كان ما سبق متضمنًا أحكامًا شرعها الله تعالى وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية وأشياء مما كان في الإسلام أبطلت ونسخت اتبعه سبحانه بما فيه حث على التبليغ فقال عز وجل: {وَإِذْ} إلخ أي واذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والشرائع والدعاء إلى الدين الحق وذلك على ما قال الزجاج وغيره وقت استخراج البشر من صلب آدم عليه السلام كالذر، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن قتادة أنه سبحانه أخذ من النبيين عهودهم بتصديق بعضهم بعضًا واتباع بعضهم بعضًا، وفي رواية أخرى عنه أنه أخذ الله تعالى ميثاقهم بتصديق بعضهم بعضًا والإعلان بأن محمدًا رسول الله وإعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نبي بعده {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} تخصيصهم بالذكر مع اندراجهم في النبيين اندراجًا بينًا للإيذان زيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع.
واشتهر أنهم هم أولو العزم من الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين وأخرج البزار عن أبي هريرة أنهم خيار ولد آدم عليهم الصلاة والسلام، وتقديم نبينا صلى الله عليه وسلم مع أنه آخرهم بعثة للإيذان زيد خطره الجليل أو لتقدمه في الخلق، فقد أخرج ابن أبي عاصم. والضياء في المختارة عن أبي بن كعب مرفوعًا بدىء بي الخلق وكنت آخرهم في البعث، وأخرج جماعة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث»، وكذا في الاستنباء فقد جاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال: وآدم بين الروح والجسد، ولا يضر فيما ذكر تقديم نوح عليه السلام في آية الشورى أعني قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] الآية إذ لكل مقام مقال والمقام هناك وصف دين الإسلام بالأصالة والمناسب فيه تقديم نوح فكأنه قيل: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم وبعث عليه محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء في العهد الحديث وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء والمشاهير، وقال ابن المنير: السر في تقديمه صلى الله عليه وسلم أنه هو المخاطب والمنزل عليه هذا المتلو فكان أحق بالتقديم، وفيه بحث {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظًا} أي عهد عظيم الشأن أو وثيقًا قويًا وهذا هو الميثاق الأول وأخذه هو أخذه، والعطف مبني على تنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] إثر قوله سبحانه: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} [هود: 58] وفي ذلك من تفخيم الشأن ما فيه ولهذا لم يقل عز وجل: وإذ أخذنا من النبيين ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ميثاقًا غليظًا مثلًا، وقال سبحانه ما في النظم الكريم، وقيل: الميثاق الغليظ اليمين بالله تعالى فيكون بعدما أخذ الله سبحانه من النبيين الميثاق بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الحق أكد باليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا فالميثاقان متغايران بالذات، وقوله عز وجل:


{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}
{لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} قيل متعلق ضمر مستأنف مسوق لبيان علة الأخذ المذكور وغايته أي فعل الله تعالى ذلك ليسأل إلخ وقيل: متعلق بأخذنا، وتعقب بأن المقصود تذكير نفس الميثاق ثم بيان علته وغايته بيانًا قصديًا كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة، والمراد بالصادقين النبيون الذين أخذ ميثاقهم ووضع موضع ضميرهم للإيذان من أول الأمر بأنهم صادقوا فيما سئلوا عنه وإنما السؤال لحكمة تقتضيه أي ليسأل الله تعالى يوم القيامة النبيين الذين صدقوا عهودهم عن كلامهم الصادق الذي قالوه لأقوامهم أو عن تصديق أقوامهم إياهم، وسؤالهم عليهم السلام عن ذلك على الوجهين لتبكيت الكفرة المكذبين كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسول فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ} [المائدة: 109] أو المراد بهم المصدقون بالنبيين، والمعنى ليسأل المصدقين للنبيين عن تصديقهم إياهم فيقال: هل صدقتم؟ وقيل: يقال لهم هل كان تصديقكم لوجه الله تعالى؟ ووجه إرادة ذلك أن مصدق الصادق صادق وتصديقه صدق، وقيل: المعنى ليسأل المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عندهم.
وتعقب بأنه يأباه مقام تذكير ميثاق النبيين {وَأَعَدَّ للكافرين عَذَابًا أَلِيمًا} قيل عطف على فعل مضمر متعلقًا فيما قبل، وقيل: على مقدر دل عليه {لِّيَسْأَلَ} كأنه قيل فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين الخ، وقيل: على {أَخَذْنَا} وهو عطف معنوي كأنه قيل: أكد الله تعالى على النبيين الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين الخ.
وقيل: على {يَسْئَلُ} بتأويله بالمضارع ولا بد من ملاحظة مناسبة ليحسن العطف؛ وقيل: على مقدر وفي الكلام الاحتباك والتقدير ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد لهم ثوابًا عظيمًا ويسأل الكاذبين عن كذبهم وأعد لهم عذابًا أليمًا فحذف من كل منهما ما ثبت في الآخر، وقيل: إن الجملة حال من ضمير {يَسْئَلُ} بتقدير قد أو بدونه، ولا يخفى أقلها تكلفًا.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)}
{الجحيم يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} شروع في ذكر قصة الأحزاب وهي وقعة الخندق، وكانت على ما قال ابن إسحاق في شوال سنة خمس، وقال مالك: سنة أربع.
والنعمة إن كانت مصدرًا عنى الإنعام فالجار متعلق بها وإلا فهو متعلق حذوف وقع حالًا منها أي كائنة عليكم، وقوله تعالى: {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} ظرف لنفس النعمة أو لثبوتها لهم، وقيل: منصوب باذكر على أنه بدل اشتمال من {نِعْمَتَ} والمراد بالجنود الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النضير رؤساؤهم حيي بن أخطب وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنبذه بسعي حيي، وكان مجموعهم عشرة آلاف في قول وخمسة عشر ألفًا في آخر، وقيل: زهاء اثني عشر ألفًا، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم حفر خندقًا قريبًا من المدينة محيطًا بها بإشارة سلمان الفارسي أعطى كل أربعين ذراعًا لعشرة، ثم خرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فدفعوا في الآطام، واشتد الخوف وظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق كما قص الله تعالى، ومضى قريب من شهر على الفريقين لا حرب بينهم سوى الرمي بالنبل والحجارة من وراء الخندق إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وكان يعد بألف فارس. وعكرمة بن أبي جهل. وضرار بن الخطاب. وهبيرة بن أبي وهب. ونوفل بن عبد الله قد ركبوا خيولهم وتيمموا من الخندق مكانًا ضيقًا فضربوا بخيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع فخرج علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه في نفر من المسلمين رضي الله تعالى عنهم حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها فأقبلت الفرسان معهم وقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرًا في قصة مشهورة فانهزمت خيله حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو منبه بن عثمان بن عبد الدار. ونوفل بن عبد العزى، وقيل: وجد نوفل في جوف الخندق فجعل المسلمون يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضهكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام.
وذكر ابن إسحاق أن عليًا كرم الله تعالى وجهه طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى، ثم أنزل الله تعالى النصر وذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} عطف على {جَاءتْكُمُ} مسوق لبيان النعمة إجمالًا وسيأتي إن شاء الله تعالى بقيتها في آخر القصة.
{وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة عليهم السلام وكانوا على ما قيل ألفًا، روي أن الله تعالى بعث عليهم صبًا باردة في ليلة باردة فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأمر الملائكة عليهم السلام فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا، وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه وقد ذهب ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر القوم. خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل لا مقام لكم وإذا الرجل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرًا فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم والريح تضربهم ثم خرجت نحو النبي عليه الصلاة والسلام فلما صرت في نصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسًا متعممين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم.
وقرأ الحسن {وَجُنُودًا} بفتح الجيم، وقرأ أبو عمرو في رواية. وأبو بكر في رواية أيضًا {لَمْ} بياء الغيبة {تَرَوْهَا وَكَانَ الله بما تَعْمَلُونَ} من حفر الخندق وترتيب مبادىء الحرب أعلاء لكلمة الله تعالى، وقيل: من التجائكم إليه تعالى ورجائكم من فضله عز وجل.
وقرأ أبو عمرو {يَعْمَلُونَ} بياء الغيبة أي بما يعمله الكفار من التحرز والمحاربة وإغراء بعضهم بعضًا عليها حرصًا على إبطال حقكم، وقيل: من الكفر والمعاصي {بَصِيرًا} ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم، والجملة اعتراض مقرر لما قبله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8